الثلاثاء، 24 فبراير 2015

تحت شجرة الكتابة – أريج جمال وغادة خليفة









الرسالة الأولى
إلى غادة
عن التًرْك


هذه واحدة من المرّات القليلة التي أرى فيها الشمس كاملة، وألصقُ عيني  بقرصها، كانت تأتي اليوم من جهة لم أصادفها فيها أبدًا، أصابني نورها بالحُرقة، وامتلأت عينيّ بالدمع، تعثرتُ في الطريق، لأن النور كان طاغيًا على كل التفاصيل، قُلت ربما تصدمني سيارة ما أو مارّ، تمهلتُ وحاولت تفادي مواجهتها، النور أيضًا يُصيبنا بالعمى يا غادة... لم أستطع أن أطرد فكرة كون هذا الحدث النادر قد وقع من أجلي اليوم، الشمس تُريد أن تقول شيئًا ما، وأنا غير واثقة، حتى الآن، من المعنى.

 في جوتة وسط البلد، حين اجتمعنا للمرة الأولى مع الألمان، على الغداء، كانت سيدة ألمانيّة شقراء في أواخر الأربعينات، قوامها طويل وثيابها بسيطة، تجلسُ إلى جانبنا، تبدو الآن في ذاكرتي خيط مشدود بنعومة، مثل وتر ربما، جميلة، هذا الجمال الذي يحمل رسالة ما، في الواقع لم تكن ضمن المسئولين المُباشرين عن المنحة، كانت فقط زوجة مُدير البنك، بدت لنا أكثرهم ودًا آنذاك، قالت أشياء، لم يكن بإمكاني وأنا أحاول تجنب الطعام الذي سيؤذي القولون، أن أتأملها كُلها، لكن كان ثمة معنى ما وحيد عَلق ضمن محاولاتي للنجاة من الألم، لقد تحدثتْ عن التركْ.
شجاعة أن تتركي الأشياء حين ينبغي أن تختاري أشياءً أخرى، كان الشيء الذي تركته هو منزل أسرتها، حياتها المُستقرة والمُمتلئة بالمحبّة، كي تصبح زوجة وأمًا، بيت جديد قائم على الترحال من وطن لوطن، تكلّمت عن جمال الرحلة الطويلة التي لم يأنْ لها أن تنتهي بعدْ، قالت إنها ربما تتركْ لأحفادها كتابًا عن هذه الحياة المُمتلئة بالتجربة، هذه التي عاشتها كاملةً بمسرّة، لكنها لن تنشره أبدًا، سوف يكون كتابًا خاصًّا جدًا.


أتدرين يا غادة... لم تُشجعني جدتي قط على الرحلة، لم تُخبرني حكايات لطيفة عن النساء اللواتي تذهبنْ للبحث عن الجمال، لم تحبني جدتي بما يكفي، هذا عادي، لكنها أيضًا لم تستطع أن تراني كحفيدة خارج كادر ثياب الزفاف مع رجل ببذلة أنيقة، لا ألومها الآن، لا أفعلْ لأنني أكتشفُ جمال الرحلة بنفسي، دون أن يُخبرني أحد.
مازالتُ أظن أن الكلام عن الترك يومها، كان موجهًا لي اصطفاءً، لأن حياتي سوف تكون بروفة ممتدة على الترك؛ كل الأشياء الجميلة التي وقعت لي، كانت لأني تركتُ شيئًا ما، كلها تنويعات على الترك، في أوقات كآبتي، أسمي المسألة "الفقدْ"، أُعدد الأشياء التي سقطت مني ولم تستمر، أرويها بحزني، فلا تكبر، وأفهم تدريجيًا، أن الذي تبقّى معي، هو فقط الذي كان سيبقى، لا أمتعة زائدة.


أنتِ لا تعرفين حكاية محبّتي العظيمة للغة الفرنسية، كانت السيدة اللطيفة التي أجرّت معي الاختبار الشفاهي ذلك الصباح البعيد، لا تُصدق أنها المرة الأولى التي أدرس فيها الفرنسيّة، تحدثنا عن أغاني إيديت بياف، وإنريكو ماسياس وداليدا، رأيتُ الطرب في عينيها من النغمات المُستحضَرة وفكرتُ في كتابة نص عن وجهها الصبياني- لم يحدث أن كتبته أبدًا- كنتُ أعرف أن ثمة سرّ بيني وبين هذه اللغة، وعرفتُ أيضًا أن هذا السر لن يكتمل، تركتُ دراسة الفرنسيّة من أجل معهد النقدْ، بعدها حاولتُ أن أجمع مالًا كافيًا لبداية دورة جديدة، وحين جمعته فعلًا، فزتُ بالمنحة الألمانية وتغيّرت حياتي بالكامل.
الآن تُشاغلني لُغة جديدة، لا يراها الجميع لطيفة، لُغة تمنحني شيئًا ما خاصًا، لم أفكر لحظة في وجوده أصلًا، أريدُ أن أتعلّم الألمانية، لقد تركتني اللُغة الفرنسية، أقول تركتني وأنا أعرف إنه فعل مزدوج، الذي تتركينه يا غادة يتركك، كان يمكن أن أستكمل دراسة الفرنسيّة وأترك المعهد، لكنني لم أفعلْ.


 أنا أخاف من الأشياء التي سأتركها يا غادة، أخاف، لأني أعرف أنني سأتركها، وأن المسألة تتعلّق بالوقت، أخاف لأنني رُبيتُ على تفضيل أمان الاستقرار على جمال الرحلة، أخاف أيضًا لأني مُحمّلة بميراث الجدّات، اللاتي، لم يفعلنْ شيئًا لأجلنا، فكرنْ في أنفسهن، في كيفية قضاء الليالي الفاترة بأقل خسائر ممُكنة، كخيار وحيد للحياة.
تخليتُ ذات يوم عن حبيب مضمون، لأن الفضاء يُناسبني أكثر، لم يحدث حتى الآن أن أتى الرجل الذي سأغني له مع بربارا سترايسند My Man ، ولم يعد في قلبي هذا الحُب العظيم الذي يلوِن الدُنيا، مع ذلك أمضيتُ ليلة بديعة مع رجل لا يعرف لُغتي، على الورق. تخليتُ عن أحبائي مُبكرًا جدًا، قلتُ لروحي أنني أتخلى عنهم قبل أن يتخلوا هُم عني، والآن أفهمْ فقط لقد تركتُ الأمتعة الزائدة.


ثمة أشياء مازالتُ أندمُ على تركها، هذا صحيح، هذه أصلًا التي تُرعبني من فكرة الترك، أقول لروحي لا بأس sometimes it doesn't work  ، في الواقع لا شيء يستحق الندم، الحياة مُمتلئة بالحياة، والكرة الأرضية ليس لها نقطة نهاية، أحيانًا لا أكون قادرة على إدراك هذا بالكامل، ولهذا طبعًا أشعرُ بالندمْ.
في زمن ما كتبتُ، وحيدة كالشمس، لا أحد يُشبهني، لا أحد أنا.
هل تظنين أن هذا هو المعنى يا غادة؟
أحبكِ.
...........
أريج
14-2-2015








إلى أريج




لماذا أكتب لكٍ عن ترك الأشياء وأنا أرغب في الكتابة عن الأشياء التي ترفض مغادرتي، تترك رائحة ما بذاكرتي هي مفتاح الصور، الصور تتسع وتتحول إلى مشاهد كاملة تستحوذ على خيالي وتقوم بإتلافه بالكامل.

كلُّ شيء يُلقي بظلِّه على الطريق، إذا كان الحب يعبر أمامكِ سيقومُ بلاط الأرضيات بتلوين ذاته، وسيتحولُ سقف الغرفة إلى سماءٍ تتسع.
الأحجار الصغيرة ستتساقطُ إذا كان الحنين هو القادم بمواجهتكِ.
الطريق لن يكون موحشًا أبدًا مع ذلك بإمكانه أن ينتهي فجأة.

أريد أن أحكِ لكِ عن وقتٍ سيأتي ستتحولُ الكتابة فيه إلى غرزة واحدة ملونة وسط نسيج بائس ومهتريء، ليس بإمكانها أن تتكاثرلتصنع نسيجًا جديدًا، ولا يمكنُ فصلها عن النسيج وحمايتها في مكانٍ آمن.
كل ما عليكِ فعله هو الاحتفاظ داخلك بفكرة واحدة فقط، هذه الكتابة التي هي غرزة وحيدة تمتلك قدرة خاصة على ابتلاع العالم، ويمكنها –إذا شاءت- اختطافكِ والطيران بكِ بعيدًا جدًا.


 سيأتي الوقت الذي سيخبرك فيه الجميع من داخل نفسك ومن خارجها أنه لا فائدة من الكتابة ومن الحياة ذاتها، وربما تجدين نفسكِ داخل شرفة عالية قبل الفجر والفكرة المظلمة هي كل ما تملكين، حينها اسحبي نفسكِ إلى التليفون، اتصلي بالدفء أينما كان ولا تتوقفي عن البكاء والكلام، ثم ضُمي الفكرة المقتولة إلي كراستك، ولا تخبري أحدًا عن الحياة التي كادت تتحول إلى موت.


الكتابة التي ذهبت معكِ إلى أوربا، ستتمكن من الذهاب معكِ إلى العمل، وستجلس بين أصدقائك بوصفها أقرب صديقة إليكِ.
الكتابة لن تتبخر إذا أتى الحب، قولي للرجل الذي يطلب محبتكِ: "لديَّ ابنة تحتاج إلى رعايتي ومحبتي ووقتي، لديَّ ابنة لن أغامر بتربيتها مع رجلٍ يكرهها، إذا كنت تريد امرأة خالصة لكَ فاذهب بعيدًا ولا تلتفت أبدًا إلى امرأة تكتب."


الكتابة لن تهرب منكِ لأن جرعةً زائدة من الوجع تطفر من عينيك باستمرار، ولن تطلب منكِ توسيع ملابسك، لن تخبركِ أن زميلتك في العمل أجمل، ولن تغضب إذا توقفتِ عن زيارتها، ستنتظرك دائمًا، وحين تعودين ستخبركِ أن المسافة أنعشت روحك، وأن قلبك ينبض بكلام جديد.
الكتابة ستسمح لكِ بأن تكوني طفلتها، ستكون مرآتكِ السحرية التي تسألينها كل يوم: "من أجمل امرأة في العالم؟"، فتهمسُ : "العالم ليس مهمًا على الإطلاق ... تعالي نلعب معًا."
.....
غادة خليفة
2015










.........

painted by:Cesare NOVI
.........



.

0 التعليقات: