في طفولتي كان الذهاب إلى وسط البلد علامة أكيدة على اقتراب العيد، كان الازدحام
الشديد يبهجنا، ويجعلنا نرغب في الاختفاء داخله وعدم العودة إلى البيت.
بعد ذلك أصبح شارع طلعت حرب هو المكان الرسمي للتمشية المسائية السرية، كنا
أنا وأختي نتمشى من البيت إلى وسط البلد، ونعود بنفس الطريقة.
كل ما أتذكره أن الشارع كان واسعًا جدًا، كأنه يمتد بلا انتهاء، وأن
الأضواء الكثيرة وتدافع الناس يجعلنا نشعر بالبهجة.
بعد ذلك كانت مدرسة الحواياتي الثانوية في شارع الشيخ ريحان هي قبلتنا
اليومية.
في منتصف التسعينات كان مترو الأنفاق لا يزال اختراعًا جديدًا، وكانت
رغبتنا في اكتشاف المكان (ميدان التحرير وما حوله) تتسع يومًا بعد يوم.
كنا ندخر من مصروفنا اليومي كي نستطيع الذهاب إلى المطعم الشهير آخر
الإسبوع،
وكان الذهاب إلى ميدان باب اللوق مغامرة كبرى، ومسافة جديدة نكتشفها يومًا
وراء يوم.
في أتلييه القاهرة كانت خطوتنا الأولى نحو الفن، هذه الخطوة التي لم تبدأ
بالمعرض الجماعي الذي أقمناه في قاعة راتب صديق وكان اسمه " خطوة واحدة"،
بل كانت بمعرفتنا بالفنان التشكيلي الأستاذ عمر جيهان.
كنا لا نزال طلبة في كلية الفنون الجميلة، وكل ما نعرفه عن الفن هو
التمارين الدراسية
لكننا داخل حديقة الأتلييه -التي كانت إضائتها أجمل مما هي عليه الآن - كنا
نتعلم معنى الفن والطرق المختلفة لقراءة العمل الفني وتقييمه، كما تعلمنا الدرس
الأكثر أهمية وهو أن إنتاج الفن أهم من الكلام عن وحول الفن.
في الأتلييه كان يومي الأحد والثلاثاء يكتسبان طابعًا خاصًا، أصبحنا نذهب
إلى هناك بانتظام والجميع يعرفون أننا تلاميذ الأستاذ عمر، نتحلق حول مائدة صغيرة،
ونناقش المعارض الجديدة ونتعرف على الفنانين والأدباء، ونشاهد اللوحات الجديدة
لأصدقائنا
عمر جهان كان يعلمنا احترام تجربتنا الفنية حتى وهي في بدايتها ،ومواصلة
العمل دون الالتفات لكل التفاصيل المعطلة في الحياة.
أما تاون هاوس فكان المكان الأكثر قربًا بعد الأتلييه، معارض الفن التشكيلي
كل أحد وعروض الفيديو والسينما في أوقات أخرى... لا يمكن أن أكون داخل هذه المنطقة
دون أن أعثر على صديق بالمصادفة.
المسافة من التحرير إلى الأوبرا عبر كوبري قصر النيل كانت نزهتنا اليوميه، كوبري
قصر النيل ممتليء دائمًا بالأصدقاء والمحبين، ويبدو في كامل بهجته قبل الغروب
تمامًا.
لا أستطيع أن أدَّعي أنني أحببت أي
شخصٍ دون أن أتمشى معه على كوبري قصر النيل. المياة المتكسرة والقوارب الشراعية
ونسمات الهواء المتدفقة كل هذه التفاصيل كانت تؤنسنا وتنعش أرواحنا.
في الأوبرا كنا نذهب إلى الحفلات الموسيقية منخفضة التكاليف، ولا أنسى
حفلات البالية الصباحية في المسرح الكبير.
في الهناجر ذو الحوائط السوداء كان وعينا يتفتح عبر المسرحيات المتنوعة والمتعاقبة
التي كنا نحضرها في نهايات التسعينات ومع بداية الألفية الجديدة، قبل أن يتم غلق
مسرح الهناجر للتجديدات والترميم.
في وسط البلد تعرفنا على المقاهي التي يجلس إليها الفنانون التشكيليون
والشعراء،
من التكعيبة إلى البورصة إلى مقهى صالح. كل المواعيد الأولى ترتبط بمقهى ما.
أثناء الثورة اكتسب ميدان التحرير طابعًا خاصًا، تحرر من كونه محطة رئيسية،
وأصبح عالمًا مكتفيًا بذاته، وممتلئًا بالأحلام الجديدة، والحياة التي ستصبح أكثر
جمالًا في المستقبل. لكنه عاد مرة أخرى وأصبح علامة على الخذلان.
لا أرغب في المرور به الآن، وأخشى مقارنته بصور الذاكرة الحية.
بعد إعادة افتتاح مقهى ريش في شارع طلعت حرب كان اسمه مرتبطًا داخلي
بالشاعر أمل دنقل، وكان كتاب الجنوبي لعبلة الرويني لا يزال طازجًا داخل ذاكرتي.
لأسباب لا أعرفها لم أذهب إلى مقهى ريش إلا مع الفنان عدلي رزق الله.
بدأت الحكاية بالندوة التي أقامتها له جماعة مغامير في مكتبة البلد، كان
حضوري هذه الندوة هو المصادفة التي جمعت بيني وبين الفنان عدلي رزق الله.
حينما دخلت إلى مقهى ريش فوجئت بنظرة استنكار من الرجل الذي يجلس خلف
المكتب في مقدمة المكان -عرفت بعد ذلك أنه صاحب المكان- سألته عن الفنان عدلي رزق
الله وحينما أخبرني أنه لم يأتِ بعد فضلت الانتظار بالخارج.
بعد فترة دخلت مرة أخرى وكان عدلي رزق الله هناك، وقدمني إلى صاحب المكان
بوصفي شاعرة جديدة، ولم تتغير ابتسامة الرجل الغريبة .
المكان كان مغمورًا بضوء أصفر قديم مختلف عن عالم النيون الذي يسكن حياتنا
الآن،
عبد الوهاب يتدفق دائمًا بصوت مناسب " آه لو كنت معي نختال عبره".
كان عدلي رزق الله يحكي لي عن مشواره الفني، وعن المسافة الطويلة التي يجب
على الفنان اجتيازها كي يجد بصمته الخاصة. وكان يحكي عن ابنتيه وعن إعادة التعرف
على العالم عبر نافذة الذات.
كنت أبتسم وأندهش من هذه المحبة التي تغمر العالم من حولي، أحد الأطفال كان
يأتي لـ"عمو عدلي" كي يريه رسوماته الجديدة .
دخل عدلي رزق الله إلى حياتي ليعلمني كيف أثق في ذاتي، وأؤمن بالمستقبل
البعيد
ثم ذهب بعد وقت قصيروكان موته ثقيلًا وقاسيًا جدًا، لكنني أحتفظ بوجوده
داخل ذاكرتي الملونة والممتلئة بالحلوى.
إلى الآن كلما مررت أمام ريش أنظر من الواجهة الزجاجية وأنا أبحث عن عدلى
رزق الله.
أتمشى داخل شوارع وسط البلد باطمئنان قديم، ومهما كان ما يحدث أفكر أن
بإمكاني المشي إلى البيت دائمًا.
وستظل هذه المنطقة هي الأقرب إلى قلبي، والأكثر قدرة على استدعاء الذكريات
القديمة، وربط الماضي بالحاضر داخل خيالي.
.........
غادة خليفة
2013
* نشر في الثقافة الجديدة - أكتوبر 2013
painted by: Fernando Botero
......
1 التعليقات:
استمتعت جدا بطريقتك فى الحكى
يسلم قلمك
إرسال تعليق